بقلم ياسين العطواني
بغض النظر عن المراحل التاريخية التي مرّت بها القضية الفلسطينية، والمحطات الكثيرة التي يمكن الوقوف عندها، بما فيها من حروب وتسويات، إلا إننا سنتوقف عند محطة مهمة ربما لم تلسط عليها الأضواء بشكل مكثف، ونعني بها إشكالية الجمع والتفريق بين الجانب السياسي والأنساني في هذه القضية، وحالة التغاضي من قبل جهات دولية مؤثرة عن فك الأشتباك بين المفهومين، بالرغم من كل المآسي التي جرت على هذه الأرض المقدسة. وهذا ما برز بشكل جلي من خلال المجازر التي تُرتكب اليوم على أرض غزة، ففي الوقت الذي نسمع فيه هذا التباكي والعويل من قبل أكثر من جهة دولية على ما تدعيه من ضحايا حليف لها معروف بعدوانيته وأغتصابه للأرض والعرض، وفي ذات الوقت يتم التغاضي عن هذا التوحش المتمثل بالهولوكوست الجديد ومشاهد الحرق والشواء لأجساد أطفال غضة، لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون على هذه الأرض المُبتلات بالنزاعات والمزايدات السياسية، الإقليمية والدولية. والأدهى والأمر إن بعض الجهات المعنية بالقضية الفلسطينية ، وهذا البعض يحمل عناويين مهمة في إدراة ملفات هذه القضية، لم تكن مواقفهم تنسجم مع التضحيات الجسام والمجازر التي تُرتكب في أحياء ومستشفيات وجوامع وكنائس غزة، بل البعض يتعاطف مع الجانب المعتدي ويعزيه بما جرى لجنوده ومستوطنيه.
وفي الوقت الذي تَعتبر فيه الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية مفاهيم ومباديء حقوق الأنسان أولوية في تعاملها مع الدول الأخرى، وعلى أساس هذه المفاهيم والقيم يتم التعامل وتحديد طبيعة العلاقات الثنائية بينها وبين تلك الدول، إلا إن هذه المباديء تُركن جانباً عندما يتعلق الأمر بحليفهم الستراتيجي والمتمثل بالكيان الأسرائيلي وما يرتكبه من جرائم ، ويتم تسويق مجموعة من الحجج والمبررات الغير مقنعة لتبرير هذه الجرائم، الأمر الذي جعل حكومات هذه الدول تفقد مصداقيتها أمام الجميع، حتى أضحت مباديء حقوق البشر مجرد شعارات ترفع في أوقات وأماكن محددة عندما تقتضي مصالح تلك البلدان رفعها.
إن هذه الأزدواجية في التعامل مع الأحداث جعل الكثير من المهتمين بالحريات العامة ومفاهيم حقوق الأنسان يشككون بنوايا وصدق من يرفع هذه المفاهيم كعنوان مركزي في تعاطيه وتعامله مع الأخرين، وهاهي الشكوك تتجسد اليوم على أرض الواقع بعد الذي حصل في غزة، ووصل الأمر الى المؤسسات التشريعات في تلك البلدان، وما شهده برلمان الأتحاد الأوربي مؤخراً من سجال بين أعضاءه، وهو يناقش التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، والإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان غزة أبرز دليل على ذلك ، عندما قارن بعض المنصفين من أعضاء هذا البرلمان بين غزة وأوكرانيا، وهذه الأزدواجية في التعامل بين القضيتين، وكانت تلك المقارنة مشفوعة بجملة من الأسئلة الموجهة الى زعمائهم، وهم ينظرون بعين واحدة الى مايجري من أحداث ، وكيف تقف معظم الدول الغربية ومعهم الولايات المتحدة وبكافة إمكانياتها العكسرية والمادية والمعنوية مع أوكرانيا بحجة الدفاع عن حقوق الشعب الأوكراني المشروعة، وفي الوقت عينه يتم تجاهل هذه الحقوق عندما يتعلق الأمر بسكان غزة وما يتعرض له من إبادة جماعية.
لقد بات واضحاً ان الغرب لا يرى الجرائم التي تُرتكب في غزة ، وما تقاطر زعماء ومسؤولي الدول الغربية على تل أبيب وإعلان تأييدهم المطلق للكيان الأسرائيلي، وغض النظر عن مجازره إلا أبرز دليل على هذا الحول السياسي، وأزدواجية المعايير لدى أطراف مؤثرة في المجتمع الدولي. وقد ثَبُت بالدليل من خلال أحداث غزة، وهذا التوحش ضد سكانها، وموقف العديد من الدول المؤثرة من هذه الأحداث والتطورات، مدى إختلال القيم والمفاهيم الأنسانية التي تحكم عالم اليوم، ففي الوقت الذي يصف البعض أعمال العنف التي تقع هنا وهناك بالأعمال الإرهابية ، وهي بالتأكيد أقل خطورة مما يجري ضد سكان غزة ، في حين يتغاضى هذا البعض عن مجازر وإبادة جماعية يتعرض لها شعب أعزل، عانى وعلى مدار عدة عقود لكافة أنواع الظلم والأضطهاد . ولهذا علينا مراجعة منظومة القيم الأخلاقية التي تحكم العلاقات الدولية، فهذا القيم على مايبدو تعاني اليوم من خلل بنيوي واضح وكبير.