الانتفاضة الشعبانية: تضحيات عظيمة تنتظر الاعتراف بحقها الإعلامي
هيئة التحرير/ رصد نيوز
في ربيع عام 1991 خرج العراقيون في جنوب البلاد ووسطها بثورة شعبية لم يكن لها مثيل في تاريخ العراق الحديث، مطالبين بالحرية والكرامة ووضع حد لسنوات طويلة من القمع والحروب والجوع، انطلقت الانتفاضة الشعبانية من البصرة بعد أيام قليلة من انسحاب القوات العراقية من الكويت، وسرعان ما امتدت شرارتها إلى أربع عشرة محافظة عراقية، في مشهد جسد أوسع حركة تمرد شعبي على نظام الحكم في العراق آنذاك. وعلى الرغم من حجم هذه الانتفاضة واتساعها وعدد الضحايا الذين سقطوا فيها من المدنيين العزل، إلا أن الإعلام المحلي والعربي والدولي تعامل معها وكأنها لم تحدث،لم توثق وسائل الإعلام المجازر التي ارتكبتها أجهزة النظام السابق، لم تنقل معاناة المدن الثائرة، لم تعرض صور الأطفال والنساء الذين سقطوا في الشوارع، ولم تنقل صوت المراقد التي قصفت، ولا الأحياء التي دمرت، ولا الجثث التي تراكمت في الساحات فكان التوثيق الإعلامي جداً ضعيف في ذلك الوقت والصمت ثقيل أحاط بالانتفاضة، وكأن هناك قراراً غير معلن بإخفائها من الذاكرة الجمعية، في تلك الأيام كان النظام يستخدم كل قوته العسكرية لسحق المدن المنتفضة، في الوقت الذي كانت فيه القنوات الإخبارية تبث أخباراً اعتيادية، وتتجاهل ما يحدث بالكامل، أو تكتفي بنقل بيانات السلطة التي تصف المنتفضين بأنهم “مخربون” أو “عناصر مندسة”. هذا التجاهل الإعلامي لم يكن صدفة، بل كان صمتاً سياسياً له أبعاده،فالإعلام حين يصمت عن الدماء، يتحول إلى شريك غير مباشر في الجريمة،آلاف الشهداء سقطوا، المئات من المقابر الجماعية ظهرت بعد سقوط النظام في عام 2003، وأدلة لا تحصى على حجم الوحشية التي واجه بها النظام السابق صدام حسين والبعث ضد الثوار، لكن هذه التضحيات لم تجد صدى كافياً في الإعلام، اليوم بعد أن ظهرت الحقائق، وبعد أن صار كثير من الشهود أحياءً يروون ما جرى، لا بد للإعلام أن يتحمل مسؤوليته، لا في استذكار الحدث فقط، بل في إعادة الاعتبار له، فهذه الانتفاضة ليست صفحة طويت، بل هي لحظة مفصلية في الوعي العراقي يجب أن توثق وتحكى للأجيال، المطلوب ليس فقط البكاء على الضحايا، بل كتابة تاريخهم، وحفظ أسمائهم، وتحويل صمت الإعلام في ذلك الوقت إلى صوت عالٍ اليوم، فالانتفاضة الشعبانية لم تكن تمرداً، بل كانت ثورة شعب خرج ليقول كفى، ومن الظلم أن تبقى محصورة في أرشيف النسيان أو تستخدم فقط في الخطابات الموسمية، ما جرى في عام 1991 هو جزء أصيل من تاريخ العراق، وعلى الإعلام اليوم أن يعترف بتقصيره، وأن يبدأ بتصحيح هذا الخلل، لقد آن الأوان أن تأخذ الانتفاضة مكانها في كتب التاريخ وفي مناهج التعليم وفي ذاكرة الناس، لا لأنها ثورة قمعت، بل لأنها تمثل أنقى صور الشجاعة الشعبية في وجه الاستبداد.